سيف الحق عضور مؤثر
عدد الرسائل : 75 العمر : 33 العمل : طالب المزاج : متفائل بالخير تاريخ التسجيل : 20/07/2008
| موضوع: صلاح الدين... البطل المغوار... والشاب المنتظر 3 الخميس أغسطس 14, 2008 6:33 pm | |
| الفصل الثالث
الأمة قبل صلاح الدين
صعود وهبوط الفرد والأمة
قبيل العرض لبعض جوانب سيرة البطل الناصر صلاح الدين الأيوبى، من الجدير التأكيد على أهمية الربط بين عوامل الصعود و الهبوط فى حياة كل فرد، و بين علاقته بالله سبحانه و تعالى. و ذلك من المهم بمكان لإنه ماينطبق على الفرد يصح أيضا بالنسبة للأمة. فكما أن صعودها لا يتأتى الا بارتباطها بالله، فان هبوطها ليس الا نتيجة لفقد الصلة بينها و بين خالق السموات و الأرض.
التوحد... يا أمة التوحيد
اذا كان تفرق المسلمين سببا ثانيا لسقوط أمتهم فان القضاء عليه أمر من الله العلى القدير الذى أوضح لنا وجوب ارتباط كل مسلم بأخيه المسلم بما يؤدى الى أن تعتصم الأمة كلها فى نسق واحد و نسيج واحد. يقول الله تعالى:
"واعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا" ]ال عمران، 3 : 103[ .
و يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من لم يهتم بأمر من أمور المسلمين فليس منهم". و فى حديث اخر"مثل المؤمنين فى توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر و الحمى".
و عليه، فان توحد المسلمين ليس مجرد فكرة تنبع من مخيلة أحد الأشخاص وانما هو ارتباط بالدين، الإرتباط الأسمى. والإرتباط بأمة الإسلام يعنى ارتباط الدول ببعضها فى وحدة واحدة اتباعا لأحدالأسس الرئيسية لهذا الدين الحنيف الذى لا يجوز التفريط فيه على الإطلاق. و لذلك، عندما تضعف الرابطة بيننا و بين المولى عز و جل، يطغى حب الذات، فينفرط العقد و يعود كل جزء من الأمة الى أصله الجاهلى. و أثناء اقامته بالمدينة، خاطب الرسول صلى الله عليه و سلم الأنصار من أوس و خزرج قائلا لهم"دعوها فانها منتنة، أبدعوى الجاهلية و انا بين ظهرانيكم؟!". و قد جاء نهى النبى الكريم ليضع حدا للعصبية لغير الإسلام، فلا داعى أن يتفاخر الوحد منهم " أنا أوسى، صاحب الأمجاد"، فيرد عليه الاخر" وأنا خزرجى، أمجادى أكثر من أمجادك"، و ذلك لإن الأمجاد الحقيقية هى أمجاد الإسلام الذى يربطنا بالله سبحانه و تعالى. يقول الله فى محكم اياته:
"ان أكرمكم عند الله أتقاكم" ]الحجرات، 49: 13[.
عندما ضعفت رابطة المسلمين بدينهم ظهرت الإنقسامات. فبعد أن كان هناك خليفة واحد أيام الخلفاء الراشدين، ثم الدولة الأموية، ثم بداية الدولة العباسية، طغت الإنقسامات على الإنتماء للإسلام حيث استأثرت ثلاث دول متعاقبة بمصر عن الدولة العباسية. كانت أولى هذه الدول الطولونية وأعقبتها الإخشيدية ثم الفاطمية التى حكمت مصر طيلة مائتى عام واستقطعت حوالى نصف أراضى الدولة العباسية بما فيها الشام. و أصبح هناك دولتان، العباسية و الفاطمية. ثم ظهرت الدولة الحمدانية فى شمال الشام. و تكونت أيضا الدولة السمانية، والدولة الغزناوية، و الدولة البويهية. و بذلك بدأت كل دولة و كل مدينة تستأثر بنفسها و أصبحت مصلحة كل منها مختلفة عن مصالح الدول الأخرى، ففقدت الرابطة الأساسية و الأهم على الإطلاق، ألا و هى رابطة الوحدة بين الأصول المختلفة لتنصهر فى بوتقة الإسلام. و تم كل ذلك فى غفلة عن قول الله عز وجل:
" ولا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم" ]ال عمران، 3 : 105[ .
" و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا ان الله مع الصابرين" ]الأنفال 8 : 46[.
وعاش المسلمون على ذلك الأسلوب من الفرقة و العصبية الأصولية حتى صار كل واحد منهم يقدم نفسه بأنه سعودى أو كويتى، سورى أو لبنانى، تونسى أو مغربى. وبالتالى انشغل كل منهم فيما كان عليه قومه أيام الجاهلية بدلا من أن ينتمى الى الإسلام. ولذلك وجدنا من يتحدث عن الفرعونية أو البابلية أو الفينيقية، مما أدى الى بعد كل ذى أصل جاهلى عن ذوى الأصول الأخرى حتى أن مجموعة من الشعراء فى الدولة الفارسية شرعوا فى الخروج عن الدين، وقال أحدهم:
هل من رسول مخبر عنى جميع العرب
من كان حيا منهم و من طوى فى التراب
جدى الذى أسمو به الذى أفتخر به كسرى و من هنا بدأت الشعوبية تطل برأسها و تحن إلى سالف مجدها، فهل يعقل أن يمدح كسرى الذى مأواه النار وبئس المصير؟ أيمدح من كان يعبد النار و يشهر عداوته لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللإسلام ؟ للأسف، هناك الكثير من أبيات الشعر التى تسير على هذا النهج مما يشير الى انفصال عرى الإتصال بين الأ فراد و بين الأمة. وها هى مجموعة أخرى من الأبيات التى تدل على مدى العودة الى الأصولية الجاهلية:
قومى استولوا على الشمس ضحا و بنوا أمجادهم فى الشهب و أبى كسرى على ايوانه و مشى فوق رؤوس الحقب و ضممت المجد من أطرافه سؤدد الفرس و دين العرب
و قد أدى ذلك التفرق الى أن تبحث كل دولة عن حماية نفسها بالأسلوب الذى يناسبها حتى و لو كان فيه بعد عن الإسلام و بغض النظر عن مصلحة الدولة المجاورة لها. و بالتالى تفرق الشمل و ضعفت الأمة.
"لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم اذان لا يسمعون بها"[1]
فى تلك الأثناء بدأت دولة سلاجقة الأتراك فى شمال سوريا تتنبه للخطر القادم من الغرب و انطلق منها المبعوثون الى ملوك و حكام و وزراء بغداد، و القاهرة، و دمشق، و الحجاز، و اليمن، يخبرونهم بالخطر الذى يتربص بهم. و تذرعت كل دولة بسبب مختلف لعدم الإستجابة لدعوة التوحد لدرء الخطر، فمنهم من تذرع بالحالة الإقتصادية المتدهورة، و منهم من ادعى وجود مشاكل سياسية داخلية فى الدولة، و أيضا منهم من استهان بالأمر و ظن أن الخطر لن ينالهم بأى حال من الأحوال.
و بدأت الحملة التى تعرف تاريخيا بالحملة الصليبية الأولى تحت قيادة ثلاثة من القادة هم جودفرى الألمانى، و ريمون الفرنسى، و بوديموندو الإيطالى. و كانت تلك القوات تتألف من ستمائة ألف من المشاة و مائة ألف فارس. و عند تحرك القادة الثلاثة من وسط أوروبا وصلت الأخبار الى سمع أرسلان أمير الدولة السلجوقية الذى أرسل المبعوثين ليحذر الدول الإسلامية من الخطر الذى يهدد العالم الإسلامى. و للأسف لم تقدم هذه الدول أية مساعدة عسكرية أو مادية، و انما تملص حكامها من المسئولية و ادعوا بأنها مشكلة خاصة بالدولة السلجوقية وحدها دون أن يفكروا فى اخوانهم الذين يقتلون و يتعرضون للمخاطر. و كان ذلك بمثابة الإشارة بان العقد قد انفصمت فصوصه بعضها عن بعض و لم يعد الإسلام هو الرابط بين المسلمين، و انما أصبحوا ينتمون الى دول مختلفة. و بدأت بالفعل الحملة الصليبية الأولى و نجحت الدولة السلجوقية فى صد الهجمات الصليبية لمدة عام بأكمله، و لكن عدد و عدة الغربيين كان كبيرا فى حين كانت امدادات المسلمين ضعيفة. و حقق الصليبيون الإنتصارات و تكونت أول امارة صليبية فى أراضى العالم الإسلامى ، امارة الرها، التى كانت بمثابة الخنجر فى القلب، سبحان الله... وبذلك أصبح الخطر الناتج عن تلك الحملات واضحا ، ألا و هو الإستيلاء على بيت المقدس و المسجد الأقصى.
و على العكس من ذلك، كان الغرب مدركا لأهمية التوحد حتى أن الفيلسوف الألمانى ديدبة كان يروى لأمير فى الهند اسمه توبشليم قصة الثيران الثلاثة ليشعره بالقيمة العظيمة للوحدة. و قد تنطبق هذه القصة على واقع الأمر حاليا كما تنطبق على أحداث تلك الفترة من الماضى. و تروى أحداث القصة أن الثيران الثلاثة كانوا بألوان مختلفة، أحدهم أبيض اللون، و الثانى أحمر، و الثالث أسود. و كان الأسد قد حاول فى كثير من الأحيان أن يأكل أحد الثيران الثلاثة و لكنه لم ينجح فى ذلك لإن الثيران كانوا يتواجدون سويا بصفة دائمة و يحمى كل منهم الاخران. فأخذ الأسد يفكر فى حيلة تمكنه من تحقيق مأربه فأخبر الثور الأبيض بأنه أجمل من الثور الأسود، ثم أخبر الثور الأحمرأنه أجمل من الثورالأبيض، و أخبرالثورالأسود أنه أجمل من الثورالأحمر. و بعد أن كان الأسد قد بث بذور الفتنة بين الثيران الثلاثة ، هجم على الثور الأبيض ولكن الثورين الأحمر و الأسود لم يدافعا عن ابن جنسهما بسبب الخلافات التى أشعلها الأسد بينهم. و تمكن الأسد بالفعل من أكل الثور الأبيض ثم الثورالأحمر. و عندما جاء الدور على الثور الأسود ليأكله الأسد، نطق بالحكمة المستخلصة من هذه القصة :"لن ياكلنى الأسد اليوم، لقد أكلت بالفعل يوم أكل الثور الأبيض!".
و على مستوى الدول، فان الخطر الذى يتربص بدولة ما لابد و أن يلحق بدول أخرى اذا لم تحرص مجموعة الدول ذات المرجعية الواحدة على التوحد لدرء ذلك الخطر. و عليه، نجد أن الأمراء المسلمين فى ذلك الوقت لم يفقدوا دولهم تباعا و انما خسروها عند أول لحظة سلموا فيها أبناء ملتهم لعدوهم. فاذا احتاج المسلم لمساعدة أخيه فى الإسلام فلا بد أن تتم الإستجابة فى الحال. و اذا لم يقم المسلم بمد يد العون لأخيه فانه يحق عليه قول الرسول صلى الله عليه و سلم "و لم ينقضوا عهد الله و رسوله الا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذ بعض ما فى أيديهم". فان اعتذرالقطر الإسلامى عن تقديم العون خوفا من التعرض لأزمة اقتصادية فلسوف يأتى من يستولى على الإقتصاد بأكمله.
الحروب الصليبية ... أمس ... و اليوم أيضا
و سقطت أنطاكيا بعد تسعة أشهر من استغاثتها ببغداد. و كان من المفروض أن يستعد أمراء دمشق و بغداد و القاهرة لصد الهجمة على الدول الإسلامية طالما أن المسئولية تحتم عليهم القيام بذلك. و رغم أن الألقاب التى اخذوها مثل مجير الدين، و معين الدين، و المسترشد بالله، و المستظهر بالله، كانت توحى بحميتهم للدفاع عن المحارم الإسلامية، الا أن الواقع كان مخالفا لتلك الألقاب. و على عكس المفترض حدوثه، بدأ هؤلاء الأمراء فى ابرام اتفاقيات و معاهدات بعدم الإعتداء مع الأمراء الصليبيين القادمين لإنتزاع أراضى الإسلام. ونتيجة لذلك الواقع المرير، ظلت طرابلس محاصرة 11 سنة دون أن يغيثها أحد فوقعت فى أيدى الصليبيين. و كانت الخطة الصليبية قد بدأت بالإستيلاء على أنطاكيا ثم طرابلس و بعدها بداوا يتحركون فى اتجاه بيت المقدس. و ماكان من الأمراء المزيفون الا أن هربوا عندما علموا بقرب وصول الصليبيين، تاركين خلفهم سبعين ألفا من الأطفال و النساء و الشيوخ. و فى تلك اللحظة تنكشف كل أكاذيب و ادعاءات الصليبيين من سماحة و رحمة عندما يأمر ريمون جيشه بذبح أولئك السبعون ألفا من الأبرياء. و ان لم تكن حرب الصليبيين دينية على حد زعمهم فماذا كان عساهم أن يفعلوا أكثر من ذلك؟ و ما أشبه اليوم بالأمس؟! أليس ذلك ما يحدث فى فلسطين، و أفغانستان، و العراق، و بقاع عديدة غيرها؟
ميسون الدمشقية
فى وسط كل تلك التفاصيل المحبطة تطل علينا قصة الفتاة الدمشقية ميسون و التى تترك أكبر الأثر فى نفس كل من تعرف على ملاباسات موقفها الإيمانى تجاه ما كانت الأمة تواجهه من مأساة، و إمتثالها لأوامر الله عز وجل، و إنتماءها للإسلام، على النقيض من الذين يتقاعسون عن ذلك وفقا لما ورد عنهم فى القرآن الكريم إذ يقول الله تعالى:
"يا أيها الذين امنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم الى الأرض" ]التوبة 9: 38 [.
من خلال الاية الكريمة يوجه الله سبحانه و تعالى اللوم الشديد للمؤمنين لعدم امتثالهم للأمر الإلهى بالخروج لنصرة الدين و الجهاد فى سبيله، و انما التصقوا بالأرض و رضوا بعيشتهم على ما كانت عليه من ذل، و ظلم، و ضياع.
و تعد ميسون احدى المؤمنات اللاتى لم تلتصقن بالأرض. كان لتلك الفتاة الدمشقية أربعة أشقاء كانوا قد ضمن مجموعة المجاهدين الذين خرجوا من دمشق ضمن الجيش المكلف بحماية أنطاكيا و استشهدوا كلهم عن بكرة أبيهم. و ذهب الناس لتعزية ميسون فى أشقائها الأربعة، و كان أبوها و أمها قد توفيا، و بالتالى أصبحت بلا عائل. و عندما جهشت النساء فى البكاء، كان لدى ميسون رسالة أبى ضميرها الا و أن تبلغها لذوات جنسها فوقفت لتقول لهن: " ان كنتم قد جئتم لتعزيتى فى أشقائى فارحلوا، و ان كان بكاؤكم و عزاؤكم على ضياع الأمة و الأرض ففكروا معى فيما يمكننا أن نقدمه لأمتنا". و لم يكن لدى ميسون المال الذى تستطيع أن تتبرع به. و مع ذلك فلم تتردد فى تقديم أغلى ما عند المراة من زينة، فقامت ميسون بقص شعرها و قالت للنساء: "نحن معشر النساءلا قبل لنا على الحرب و لا الخروج للجهاد، و لكن مازال بوسعنا توفير الحبال التى يستخدمها المجاهدون لربط الخيول". و طلبت ميسون من الحاضرات أن يقدمن ما هو فى استطاعتهن، فأقدم الكثير من النساء على قص شعرهن. و هكذا تكون المرأة المسلمة قد قصت شعرها على سبيل اتيان ما هو بوسعها لرفعة شأن دينها، و تكون بذلك مثالا لكل منا لتقديم ما لديه لنصرة دينه.
ثم ذهبت ميسون لسبط بن الجوزى فى جامع دمشق و قالت له :"ليس باستطاعتنا نحن نساء الإسلام أن نقدم أكثر من ذلك فانظر ما بوسع الرجال أن يقدموا". و ما كان من ابن الجوزى الا أن خطب خطبة فى جامع دمشق قال فيها:"يا ايها الرجال، هل أنتم أحياء أم صرتم أمواتا؟ أرض المسلمين قد سلبت بعد أن دفع صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم دماءهم ثمنا لها. أو تضيع الأرض؟ فان ضاعت الأرض فباسم الإسلام أدعوكم، فان لم تقوموا باسم الإسلام فباسم الإنسانية أدعوكم، فان لم تقوموا باسم الإنسانية فليكن باسم العروبة اذن. بالله عليكم ، لقد تحركت النسوة و قدمن شعورهن حبالا لكم فتحركوا حتى تكون النهضة و العودة و الأوبة الى دين الله!".
"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" [2].
لقد كان سقوط بيت المقدس ايذانا بتحويلها الى امارة صليبية رابعة بعد امارات الرها، و انطاكيا، و طرابلس. و لكن الله سبحانه و تعالى قدر أن يلوح فى الأفق أمل لإنقاذ الأمة مما كانت عليه من ضياع. فلقد شهد عام 522 هجرية مولد عماد الدين زنكى، تلك الشخصية المؤثرة فى اعادة رفع راية الإسلام من خلال الكفاح لتحرير بيت المقدس. و نظرا لأن عماد الدين قد استمد أصوله من رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، فقد أخذ بأسباب الإنتصار التى عرضنا لها فى الفصل السابق. وأثناء قيامه بالتعرض للصليبيين و مناوشتهم عسكريا طلب العون من الأمراء المسلمين فى دمشق و بغداد و القاهرة، و كسابق العهد بهم ، رفضوا تلبية طلبه متعللين بأعذار واهية. استعان عماد الدين بالله العلى القدير و بدأ فى مهاجمة الإمارات الصليبية القائمة فى ذلك الوقت. و من هول المفاجأة أنه كلما خرج عماد الدين لمقاتلة الصليبيين خرج جيش مسلم من بغداد أو دمشق أو حلب أو حمص لمنعه من قتال الصليبيين. و كان الأمراء المسلمون يخشون أن يغضب الصليبيون عليهم فيستولوا على أراضيهم. و لذا كان لكل أمير مسلم تفكيره المنفصل عن الجماعة. و للأسف فلا ينطبق على موقفهم هذا سوى ما نجد من وصف الله تعالى لليهود اذ يقول فى كتابه الكريم:
"بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا و قلوبهم شتى" ]الحشر، 59: 14[.
و ما أغرب أن يتكرر هذا الموقف فى وقتنا الخالى و تنطبق عليه أيضا الاية الكريمة بالنظر الى ما هو جار الان من خلافات بين المسلمين بعضهم و البعض الاخر. والغريب أن نفس الخشية من الغرب و التودد اليهم فى ذلك الوقت هو بعينه ما يحدث فى أيامنا هذه.
اذن، كان لا بد لعماد الدين زنكى أن يعتمد على الله ثم على نفسه و ينطلق بثمانمائة من جندى ليفتح بهم حلب و حمص، مما شجعه على احداث زلزال كبير بالصليبيين بفتحه لإمارة الرها وانتصاره على جوسلان. و وبالتالى تحمس عماد الدين زنكى لمواصلة تحقيق طموحاته و آماله بفتح امارة أنطاكيا فأرسل مبعوثيه مرة أخرى الى أمراء المسلمين بعد أن أصبح واضحا لهم أن النصر حليفه. و كما أشرنا من قبل، كانت أسماء هؤلاء الأمراء فارغة من المضمون، ومع ذلك بعث عماد الدين برسائله الى مجير الين و معين الدين و المسترشد بالله و المستظهر بالله. و كانت فيما يلى رسالته الى مجير الدين:
"من عماد الدين زنكى الى الأمير مجير الدين،
أما بعد،
"قد وصلتكم أنباء انتصاراتنا على الفرنج بعون الله و توفيقه و قد عقدت العزم على المضى قدما فى سبيل تحرير كل حبة رمل من أرض الإسلام و لكن ينقصنا العتاد و المال. هلموا الى تجارة رابحة تنجيكم من عذاب أليم. لقد انقطعت السبل فهلموا و قدموا يد العون لإخوانكم المرابطين فى سبيل الله".
و من المفترض أن يكون لمثل تلك الرسالة أثر يحرك فى نفوس المسلمين نخوة الإسلام، أو العروبة، أو أى رابطة مشتركة، ولكن، للأسف، كان رد مجير الدين عبارة عن ورقة بيضاء. و لم يصل كذلك أى رد لعماد الدين زنكى من الأمراء الاخرين، بل على العكس من ذلك، وصلته الأنباء أن مجير الدين و معين الدين قد تضامنا مع ملك بيت المقدس. فهل هذا معقول؟! و فى تلك الأثناء، وبعد سقوط الرها، أخذت أوروبا فى الإعداد لحملة صليبية أخرى بغرض القضاء على عماد الدين زنكى. و بدلا من أن يتجه الأمراء المسلمون الى مساندة أخيهم فى الإسلام، تعاهدوا مع عدوه. و لذا، فلا تستغربن، أيها القارىء، أن يحمل التاريخ ذكرى عطرة لأناس موضعهم فى أعماق القلوب، و أن يحمل كذلك البغض لمن لا يستحقون الذكر.
و فى ذلك الوقت، كان عماد الدين على مشارف قلعة اسمها جعبر التى كانت بمثابة الخطوة الباقية لفتح أنطاكيا، الإمارة الثانية من الإمارات الصليبية. و فجأة، تصاب الأمة بفجيعة اغتيال عماد الدين زنكى ليلا، وسط جيشه و عتاده. و قيل أن خادمه قد سمه، و لكن من كان صاحب المصلحة فى موت عماد الدين زنكى؟ من الذى أصابه فى ظهره بسهم مسموم؟ و يجيب على هذه التساؤلات أصحاب العقول التى تعى أن النفوس المريضة هى التى أحدثت تلك الخيانة المتمثلة فى اغتيال عماد الدين زنكى. و لكن شاء الله تعالى برحمته أن يكون لعماد الدين ولدين هما سيف الدين و نور الدين.
وإقتفاءا للموقف الإيمانى للفتاة الدمشقية ميسون، تلح علينا الحاجة لمراجعة أنفسنا بغرض الإقبال على عمل، صغيرا كان أو كبيرا، يكون من شانه المساعدة فى نهوض الأمة. وليكن ذلك العمل فى محيط الأسرة، أو المجتمع، و انما المهم أن يصب فى صالح المسلمين. و رغم صعوبة المهمة الا أن الأمل معقود على ان ينجح الكثير منا، كما نجحت ميسون، فى مساعدة الأمة و لو بشىء بسيط.
] [1]الأعراف،7 : 179. [
[2] ]الأحزاب، 33: 23[.
| |
|