سيف الحق عضور مؤثر
عدد الرسائل : 75 العمر : 33 العمل : طالب المزاج : متفائل بالخير تاريخ التسجيل : 20/07/2008
| موضوع: صلاح الدين... البطل المغوار... والشاب المنتظر 6 الخميس أغسطس 14, 2008 6:23 pm | |
| الفصل السادس البيئة و المناخ
التربية للكبير قبل الصغير
لقد تبين لنا مدى المسئولية الملقاة على عاتق الأبوين لتربية الأطفال وفقا لأسس سليمة. و يتميز دور الأم على وجه الخصوص فى المرحلة التى يكون فيها الطفل من ثلاث الى سبع سنوات. و كانت أم صلاح الدين خير مثال على ذلك بما بذلته من جهد عظيم فى تربية ابنها. و لذلك فعلى كل أم أو فتاة تستعد للزواج أن تقتدى بتلك الأم اذا ما أرادت لإبنها نجاحا و فلاحا فى الدنيا و الاخرة باذن الله تبارك و تعالى.
و لكن هل كل أب و كل أم مؤهلين لتحمل هذه المسئولية؟ أم من الأحرى مراجعة الذات و العمل على التحلى بالصفات الخمسة للشخصية السوية حتى يكون هناك مربون و ليس معطلون لأجيال قادمة؟
تخطيط التقدم، و عشوائية التخلف
لقد أدرك المحللون للمناخ العام الذى تعيشه الأمة الإسلامية حاليا أن مجتمعنا على ما هو عليه يعانى من أربع أزمات معطلة للتقدم. و قد نجح القائمون على تربية صلاح الدين فى تلافى تلك المعطلات.
و تتجسد أولى هذه الأزمات فى التخلف الواضح فى مظاهر الحياة كلها حتى على الجانب الدينى. وكل ذلك ناتج عن عدم الإستعانة بالأساليب السليمة فى ايجاد حل للقضايا المختلفة.
أما الأزمة التى تشهد قدرا غير محدود من العشوائية فهى أزمة ندرة القيادة الكفء، و ذلك يرجع الى أن اختيار الغالب الأعم من القيادات الحالية يتم تبعا لظروف خاصة لا صلة لها بالكفاءة و المهارة و الخبرة.
هذا بالإضافة الى أزمة عدم الإنتماء الى هويتنا الأصلية. و على سبيل المثال، كيف يمكن التحدث عن مجتمع ينتمى الى الإسلام و العروبة والإنسانية فى حين أنه عندما أعلنت الأمم المتحدة عن جمع توقيعات من الدول الإسلامية لمعارضة الغزو الأمريكى لأفغانستان كان عدد الموقعين لا يتجاوز ثلاثة مليون مسلم من أصل مليار و مائتين و خمسين مليون مسلم يعيشون على وجه الكرة الأرضية؟ و فى المقابل، كم من ملايين المشاهدين يقبلون يوميا على الإتصال بالبرامج التليفزيون بغية الفوز بجائزة مالية تشوبها الحرمة؟ فما هى هويتنا اذن؟ هل هى هوية غنائية دنيوية، أم هوية اسلامية تؤدى بصاحبها الى السعادة فى الدنيا و الاخرة باذن الله العلى القدير؟
و لا ينبغى أن نغفل أثر الأزمة الرابعة فى تدهور أحوال الأمة، الا و هى أزمة انحدار الفاعلية الى مستوى يكاد يؤدى الى تلاشيها نهائيا من حياتنا كمسلمين حيث بعدنا تماما عن التفكير فى فعل شئ يفيد الأمة الإسلامية.
صلاح الدين ... تكامل الدنيا و الدين
و بعودة الى المناخ و الأحوال التى نشأ صلاح الدين فى ظلها، نجده نشطا فى حفظ القران و هو فى التاسعة من عمره حتى أنه لم يبلغ الحادية عشر الا و كان قد حفظه كاملا عن ظهر قلب. و قد حدث ذلك بتلازم مع حضور صلاح الدين لدرس يومى مابين المغرب و العشاء يستمع فيه للأجلاء من علماء الدين امثال قطب الدين النيسابورى، و عبد الله الدرى، والحافظ أبى طاهر السلفى، و عبد الله بن أبى عصرون. و بذلك كان صلاح الدين لايترك مجلسا من مجالس العلم يؤمه عالما أو فقيها الا و شارك فيه. هل هذا يعنى أن صلاح الدين لم يكن له أصدقاء و لم يكن يخرج من المنزل للتنزه؟ بل كان له العديد من الأخلاء يجتمع معهم مساءا فى مكان للترويح، حتى وقت مناسب، ثم ينسحب كل منهم الى منزله ليقوم ليلا عدد للتهجد. أما شباب اليوم، فان غاية ما يشغله هو السهر لوقت متأخر من الليل مع الأصدقاء، و عند الإستيقاظ فى اليوم التالى يعاودون الكرّة بالتجمع الذى لا ينتج عنه سوى مضيعة للوقت. و لكن الأمر بالنسبة لصلاح الدين كان مختلفا، فإلى جانب بره بوالديه و الإهتمام بدراسته بما تشمله من تعلم اللغة و الرياضيات و علم الفلك كان يلعب الكرة و يلتقى بأصدقائه، مؤكدا بذلك على معنى التوازن فى أنشطته بين الدين و الدنيا. و على سبيل المثال، فقد درس كتاب التنبيه فى الفقه للإمام الشافعى، كما حفظ كتاب الحماسة فى الشعر. و قد أدى ذلك كله الى تكوين شخصيته المتكاملة التى سمحت له بالتنوع فى الإهتمامات الصالحة و المفيدة للذات و للأمة. و مثل هذه الشخصية هى التى ينبغى توليتها القيادة.
أسد ... معلما للقيادة
لا شك أن أسد الدين شيركوه كان له بالغ الأثر على ابن أخيه صلاح الدين، لما بلغه ذلك العم من حماس للدين و رجولة و مروءة. و لم يتوقف أسد الدين عند دور العم لصلاح الدين ، و انما كان له المعلم الذى وجهه الى طريق الجهاد فى سبيل الله تبارك و تعالى. و نعم المعلم ذلك الذى يتحلى بالشجاعة و الحمية للدين، و الصبر مع الإستمرار فى المحاولة حتى بلوغ المأرب الشرعى. و بالفعل، حرص أسد الدين أشد الحرص على تدريب ابن أخيه على عدم الإستسلام للإخفاق، و غرس فيه الإصرار على اعادة التجربة حتى تنجح. و مثلا، فعندما سقط صلاح الدين من على ظهر الجواد لأول مرة لم يكن عمره قد تعدى السابعة، و أسرع نحوه والده و اخوته للإطمئنان عليه ، فما كان من أسد الدين الا أن منعهم تماما من الإقتراب من صلاح الدين و ضربه ضربة خفيفة على قدمه و قال له: "ما ينبغى ليوسف أن يقع مثل هذه الوقعة. عليك أن تمسك حصانك فلا تجعله يسيرك! كن أنت و الحصان جسدا واحدا". و كان ذلك هو الأسلوب الذى اتبعه أسد الدين فى تعليم صلاح الدين الفروسية، بما فيه من مزيج للتدريب البدنى و الإتقان الرياضى من جانب، و التربية النفسية على عدم اليأس و الإصرار على النجاح من جانب اخر.
و قياسا على ذلك، فان القدوة فى المجال الرياضى لا تقتصر على مهارة الأداء، بل انها لا تصبح قدوة حقيقية الا اذا تحلت بالأخلاق الحميدة و السلوك القويم. و يحدث أحيانا فى رياضة كرة القدم أو أى رياضة أخرى أن يبرز لاعب بمهاراته و لكنه فى الأسف ساقط أخلاقيا. و فى المقابل، هناك صورة مشرقة للشاب الذى يحقق تفوقا فى الرياضة التى يمارسها، و نتيجة لإتصاله بالله جل شأنه، فهو يسجد شاكرا لبارئه فى نفس اللحظة التى وفقه فيها الرحمن الرحيم الى تحقيق انجاز ملحوظ. و بالتالى يكون هذا السلوك الإيمانى قدوة و دليلا على ضرورة الإتصال بالله فى كل وقت و فى ظل موقف، حتى عند ممارسة الرياضة.
أما عن صلابة صلاح الدين، فمرجعها الى تأسيه بمواقف عمه أثناء القتال. كان أسد الدين شيركوه يرفض تماما أن يكون هناك معلم غيره لتدريب ابن أخيه على حمل السلاح، و رمى الرمح، و المبارزة، و فنون القتال المختلفة. و فى بعض الأحيان، كان نجم الدين أيوب يخاف على ابنه من قسوة التدريب على يد أسد الين شيركوه الذى كان يصل بجدية التدريب الى حد امكانية اصابة صلاح الدين بأذى، فيتبادل الأخوان الحديث فى هذا الخصوص:
" (نجم الدين) : رفقا بالصبى يا أسد الدين، أراك تقسو على غلام لين العظم. (أسد الدين) : و الله ما أريد له الا كل الخير ، فانى أصبو الى أن يصير خير منى و أن يتفوق على معلمه".
و بالفعل، كانت التدريبات التى يتلقاها صلاح الدين من عمه تشهد قدرا كبيرا من الحماس و الشدة و الجدية و الفاعلية. و هكذا يتضح أن أمر صلاح الدين لم يكن مجرد أمر رجل يغار على دينه فمسك السيف و خرج ليفتح حطين. و انما المسألة تطلبت تدريبا شاقا مستمرا على تعاقب السنوات و اختلاف الظروف، بما فى ذلك من احتكاك و تعلم من القادة.
و بناء على ما سبق، فان التخطيط لإعداد جيل قيادى ينبغى أن يبدأ بتدريب من هم فى الثامنة عشر من عمرهم و اتاحة فرصة احتكاكهم بالقيادات. و ذلك حتى لا يكون من الوزراء من تعدى الستين أو السبعين عاما.
و الى جانب قوة شخصية أسد الدين و حماسته للدين و جهاده فى سبيل الله سبحانه و تعالى، فانه كان قريبا للغاية من صلاح الدين. و لذلك كان صلاح الدين يلجأ اليه فى بعض الأحيان حتى يستشيره فى مشكلة يواجهها و يحصل منه على النصح الغالى المفيد. و كأى شاب، شعر صلاح الدين ذات مرة بالحرج يملأ صدره حيث أنه يشعر دائما بالسكينة و الطمأنينة أثناء توجهه لله تبارك و تعالى داخل المسجد، و لكن ما أن يلتقى بأصدقائه و يذهبون سويا الى مكان اخر، حتى يشعر بالتناقض بين ما يسمعه من العلماء و الفقهاء و بين ما يدور من حوارات أثناء لقائه بأصدقائه. و لما كان عمه أسد الدين شيركوه هو أكثر من يمكنه مصارحتهم فى ذلك الوقت، دار بينهما الحوار التالى:
" (صلاح الدين) : السلام عليكم يا عماه. (أسد الدين) : و عليك السلام و رحمة الله و بركاته. (صلاح الدين) : من أنا يا عماه؟ (اسد الدين) : أنت يوسف ابن أخى نجم الدين أيوب، هل نسيت من أنت يا صلاح الدين؟ أم ماذا تقصد؟ (صلاح الدين) : اذا كنت فى دروس المسجد حلقت نفسى كالطيور، وأحس أنى أحب هذا. و عندما أخرج مع أصحابى أكون سعيدا و أحب هذا. من أنا من هؤلاء؟ (أسد الدين ) : أنت كل هؤلاء يا بن اخى. ان ما لمسته فى نفسك انما هو امارات صدق و دليل على نبوغك، فلا تدع للشيطان مدخلا اليك، فالإنسان الصادق يعيش ما يعيشه بصدق و بساطة، يعطى لمقام الجد حقه و لمقام الترويح قدره".
و من ذلك الحوار تتضح قدرة أسد الدين شيركوه على تهدئة صلاح الدين و بعث الطمأنينة فى قلبه. و فى الواقع، فان ما كان يشعر به صلاح الدين ليس الا ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ان الإيمان يزيد و ينقص". و ليس فى شكوى صلاح الدين من جديد اذ أن الصحابة رضى الله عنهم كانت لهم أحيانا نفس الشكوى، فاثناء تواجدهم فى صحبة النبى الكريم كانوا يشعرون بحالة من الصفاء و السكينة لا يجدونها عند مفارقتهم له. و هذا أمر طبيعى، و لكن المهم هو ألا يغفل الواحد منا عن الرابطة التى تربطه بالله العلى القدير مهما صدر منه من تجاوزات. و لذا، فالأحرى بنا أن نرجع الى قول الحق تبارك و تعالى:
"و لا تزر وازرة وزر أخرى" ]الأنعام، 6 : 164[.
جمال الدين ... جمال الجود و السماحة
و الشخصية الثانية من الشخصيلت المؤثرة فى صلاح الدين الأيوبى هى شخصية جمال الدين الأصفهانى الذى اتسم عن حق بجمال الروح و العمل، و سماحة الخلق، و العطاء السخى. و لم يكن الناس يحبون تلك الشخصية لمنصب صاحبها، و انما لعطائه الفياض و كرمه الشديد لعباد الله فى كل مكان. و رغم الصفات الحميدة و النادرة لهذه الشخصية فلا يعرفها الا القليل من الناس. كان جمال الدين الأصفهانى الصديق الحميم لأسد الدين شيركوه، فكان من الطبيعى أن يكون أسد الدين سببا فى تعريف جمال الدين بصلاح الدين. و بمرور الأيام صار جمال الدين موجها و معاونا لصلاح الدين على أعمال الخير التى كان يقوم بها.
و من الأمثلة التى من شانها ان توضح مدى الكرم الذى اتسم به جمال الدين الأصفهانى أنه لاحظ أن المسافة التى يقطعها الحجيج من دمشق الى المدينة المنورة طويلة جدا، فما كان منه الا أن أنشأ عدة دور للإقامة على طول الطريق و استضاف بها المسافرون دون أن يدفعوا أى مقابل مادى، اذ أنه كان ينتظر المقابل من الله عز و جل. و مثال اخر لشدة سماحته أنه جاء على نفقته الخاصة بماء زمزم للحجيج من مكة الى جبل عرفات فى يوم عرفة حتى يسقيهم. و كان أيضا أول من تكفل بنحت مدرج صخرى فى جبل عرفات لتيسير صعود الحجيج اليه و نزولهم منه. و ذات يوم أرسل له أمير المدينة المنورة يشكو اليه كثرة سطو اللصوص فى ذلك الوقت على المنازل فى مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم، فأمر جمال الدين باحاطة المدينة المنورة بسور على نفقته بالرغم من أنه وقتها لم يكن متقلدا منصبا ذا نفوذ أو مسئولية. و لكن كان كل همه فى التفاعل الإيجابى مع تلك المشكلة. و قد عان الناس فى احدى السنوات من جدب شديد لدرجة أنهم لم يجدوا سوى بيت جمال الدين للذهاب اليه طالبين الصدقات و المساعدات. و استمر عطاؤه للمستغيثين به حتى نفذ كل ما كان لديه من مؤن و مال. و مع ذلك، جاءه رجل يطلب الزاد، فكان من الصعب على جمال الدين أن يرد ذلك الرجل فأعطاه الشئ الوحيد الذى تبقى له، ألا و هى عباءته!
و لنسأل أنفسنا، ماذا كان الدافع وراء تكفل جمال الدين الأصفهانى بكل تلك الأعمال الخيرية؟ و هل كان من الممكن ألا يتأثر صلاح الدين بتلك الشخصية؟ اذن، فلا غرابة فى أن يؤثرالكرم البالغ لذلك الرجل على صلاح الدين الأيوبى بعد أن كان شاهدا على كل تلك المظاهر من الإغداق الشديد. و بالتالى، فلا عجب أن يحاكى التلميذ معلمه فى صفات الجود و السماحة، حتى أن كل ما تركه صلاح الدين من مال حينما حضرته الوفاة كان عبارة عن جنيه مصرى واحد لا غير. و الجدير بالملاحظة أن تصدق صلاح الدين و سماحته كانا مع المسلم و لغير المسلم، فعند فتحه لبيت المقدس، افتدى صلاح الدين ثمانية عشر ألف أسير من ماله الخاص، فدفع عشرة دنانير عن كل منهم، أى اجمالى ما دفعه مائة و ثمانون ألف دينار أخرجها صلاح الدين لبيت مال المسلمين لإفتداء غير المسلم.
و من كل ما سبق تتضح أهمية المناخ الذى أحاط بصلاح الدين و الذى جعله يتسلح بالصفات الحميدة التى عرفت عنه. فهل نحن نوفر مثل ذلك المناخ الصالح لأبنائنا؟ هل يحرص الأباء على أن يكون أصدقاؤهم من أمثال أسد الدين شيركوه فى رجولته و صلابته، وجمال الدين الأصفهانى بجوده و سماحته؟ و عند الإجابة بالنفى، و هو الغالب الأعم، نكون قد وضعنا أيدينا على سبب رئيسى من أسباب تخلف أمتنا. و يكفينا الإشارة الى الاية الكريمة التى كان يرددها جمال الدين الأصفهانى من قول الله تعالى:
"تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين" ]القصص، 28: 83[.
وكانت الأعمال الخيرية و سماحة جمال الدين الأصفهانى سببا فى نبوغه و ذيوع صيته حتى أن الوزراء بدأوا يغارون منه و يشعرون بالضغينة تجاهه. و نتيجة لذلك الحقد، أوغر أولئك الوزراء صدر الأمير ضده حتى أصدر قرارا بعزله من الوزارة. هل من المعقول أن تتم إقالة مثل تلك الشخصية الأمينة، المتبعة للصراط المستقيم، المحبة الخير للناس؟ بل أن الأمير لم يكتف بذلك، فقد حدد اقامته أيضا. و بلغ الحال بجمال الدين الأصفهانى الى أن يقول و هو على فراش المرض: "الحمد لله الذى لم ينقلنى من مقعد الحكم و فتنته الى قبرى بل نقلنى من سجنى و فراشى البسيط هذا الى قبرى. الحمد لله الذى جعل ذكرى بين الناس لشخصى و ليس لمقعد وزارتى. الحمد لله الذى يقبضنى و أنا من المساكين". و هكذا، فلقد حمد جمال الدين الأصفهانى ربه سبحانه و تعالى على أن روحه قد قبضت من على فراشه و ليس من على كرسى الحكم.
وقبل وفاته بأيام، رأى جمال الدين الأصفهانى رؤية مؤداها أن نهاية حياته سوف يسبقها مقدم طائر أبيض من نافذة بيته. فيقول لأبى القاسم: "اذا شاهدت الطائر الأبيض قد حل بالدار فأخبرنى". فظن أبو القاسم الصوفى أن جمال الدين قد اختلط عليه الأمر نظرا لكبر سنه. و لكن، فى يوم وفاة جمال الدين، سمعه أبو القاسم من خارج غرفته و هو يعلو بصوته قائلا :"ابحث عن الطائرالأبيض يا أبا القاسم. هل جاء الطائر الأبيض؟". فخرج أبو القاسم يبحث عن الطائر فى الدور كلها و لم يجد ذاك الطائر، و رجع الى جمال الدين يخبره، فاذا بصوت المحتضر يعلو بالشهادتين :"أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، حبيبا جاء على فاقة". فكم كان جمال الدين مشتاقا للقاء ربه سبحانه و تعالى. و مات ساعتها جمال الدين الأصفهانى. و يقول أبو القاسم الصوفى:"فشاهدت طائرا ابيضا على نافذة غرفته، و قد صدق الرجل، لقد تحققت الرؤية التى رأها". و كان مسك ختام جمال الدين الأصفهانى دفنه بالمدينة المنورة حيث كان قد أوصى بدفنه بالبقيع. و رغم بعد المدينة المنورة عن دمشق و حمص و المناطق التى عاش فيها، جاء الناس من كل تلك البلدان الى مسجد الرسول صلى الله عليه و سلم لتوديع جمال الدين الأصفهانى. لم تكن جنازته رسمية و لا حشد لها حشود بالأمر كما يحدث هذه الأيام ، وانما تدفق الناس من تلقاء نفسهم من دمشق و حلب و حمص و الموصل و بغداد و مصر للصلاة على جمال الدين الأصفهانى. يقول الله تعالى فى كتابه الكريم :
" إن الذين امنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا" ]مريم، 19 : 96[.
حقيقة، اذا مات العبد انقطع عمله الا من ثلاث، منها الصدقة الجارية. و لعل صدقة جمال الدين الأصفهانى تجرى اليه فى كتابه الى هذه اللحظة، بل لعله يكتب بالفردوس الأعلى برحمة الله عز و جل.
كان من الضرورى الإفاضة فى الحديث عن المناخ المحيط بصلاح الدين الأيوبى لإيضاح كيف أن ذلك المناخ كان خير معين له على التحلى بالصفات الحميدة و من ضمنها حب العطاء بسخاء، و الذى اكتسبه نتيجة لقربه من جمال الدين الأصفهانى، ذلك الرجل الجواد . و لذا ، فليكن كل من جمال الدين الأصفهانى و صلاح الدين الأيوبى قدوة لنا فى الإقبال على التصدق على فقراء المسلمين ، و الإتيان بأعمال خيرية و أوقاف للمسلمين. و لا يشترط أن تقتصر المشاركة فى أعمال الخير على التبرع بالمال، وانما يتقبل الله سبحانه و تعالى أى عمل يساهم فى اصلاح أحوال الرعايا والأمة الإسلامية. و على سبيل المثال و ليس الحصر، من الممكن قضاء بعض الوقت فى زيارة دور الأيتام و الإشتراك فى رعايتهم سواء بالتعليم أو التوجيه أو العطف عليهم.
| |
|