سيف الحق عضور مؤثر
عدد الرسائل : 75 العمر : 33 العمل : طالب المزاج : متفائل بالخير تاريخ التسجيل : 20/07/2008
| موضوع: صلاح الدين... البطل المغوار... والشاب المنتظر 19 الخميس أغسطس 14, 2008 6:02 pm | |
| الفصل التاسع عشرالصمود العفو عند المقدرة
من الجدير بالتوضح كيف أن أفكار التسامح و العفو عند المقدرة و التسامح هى أ فكار بنيت عليها شريعة الإسلام. و قد ظهر ذلك واضحا عندما عفى صلاح الدين الأيوبى عن الجنود الصليبيين. و كان هذا التسامح بمثابة الرسالة المبعوثة الى القارة الأوروبية بأسرها عن قيمة هذا الدين العظيم الذى عفى عن الجنود الصليبيين بعد قتلهم آلاف الأبرياء و إغتصاب العديد من الأراضى الإسلامية. و كان ذلك العفو دليل على سماحة الإسلام مع أبناء الديانات الأخرى. و بالتالى القضية ليست دينية، و إنما القضية تكمن فى إغتصاب أرض إسلامية.
حب الدنيا زائل ... و حب الله تبارك و تعالى باق
و الغريب، رغم أن العفو الذى منحه صلاح الدين لآلاف الجند الصليبيين الأسرى هو عمل فى غاية الإنسانية، إلا أن أمراءهم قابلوا الإحسان بالإساءة فأمروا نفس هؤلاء الجنود بالتجمع فى ثلاث مناطق هم صور و صيدا و أنطاكيا، تلك المناطق التى لم يستطع صلاح الدين فتحها أبدا.
و لقد تصرف كونراد أمير صور بناءا على مبدأ إسلامى نفتقر نحن إليه حاليا. و التفاصيل تروى بأن صلاح الدين كان قد أسر والد كونراد، و أراد أن يقايضه بمدينة صور. و رغم العلاقة الفطرية التى تربط أى ابن بأبيه، و رغم شدة حب كونراد لوالده، رفض الأمير الصليبى تلك المقايضة، مفضلا مصالحه على حرية أبيه. فما لنا لا نضع موقف كونراد أمام أحكام شريعتنا الغراء و نجعل حبنا لله تعالى ، و لرسوله صلى الله عليه و سلم، و لجهاد فى سبيله، يأتون فى المقام الأول فى حياتنا تصديقا لقول الله تبارك و تعالى:
"قل ان كان اباؤكم و أبناؤكم و اخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب اليكم من الله و رسوله و جهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره و الله لا يهدى القوم الفاسقين" ]التوبة، 9: 24[.
الإسلام ... خلقا و عملا
دخل صلاح الدين المسجد الأقصى ليلة 27 رجب سنة 583 و أدرك عدم امكانية الصلاة فى المسجد بسبب الحالة التى كان عليها حيث كان الصليبيون قد حولوه الى حظيرة خنازير. و لذا لم تعقد بالمسجد الأقصى صلاة أول جمعة بعد فتح بيت المقدس، وأنما جاءت خطبة الجمعة الأولى بذلك باولى القبلتين و ثالث الحرمين الشريفين يوم 4 شعبان سنة583. و قد ألقى الخطبة فى ذلك اليوم محيى الدين بن الزكى و هو أحد الأئمة الكبار. و أقدم صلاح الدين على اظهار ما كان يتمتع به من وفاء عندما أمر باحضار من دمشق المنبر الذى كان نور الين محمود قد أمر بصنعه، و ذلك حتى يصعد عليه الخطيب عند القائه لأول خطبة جمعة بالمسجد الأقصى بعد تحريره. و يا ليت الوفاء و العرفان بالجميل ينتشران بيننا كما كانا يثريان العلاقة بين المسلمين فى عهد صلاح الدين.
و فى موقف آخر جدير بالذكر، امر صلاح الدين بعد انقضاء صلاة الجمعة بأن يقوم زين الدين بن نجا المصرى باعطاء درس دين للحاضرين. فرغم مشاعر السرور و البهجة التى كانت تعم الجميع، الا أن صلاح الدين اراد أن يذكر المسلمين بضرورة الإستزادة من تعاليم دينهم و تطبيقها لصالح الأمة!
تلبيس الحق بالباطل
و فى تلك اللحظة، كانت كل ديار الإسلام فيما عدا صور و صيدا و أنطاكيا قد خضعت لصلاح الدين الأيوبى. و على الجانب الآخر، كانت الحسرة قد أصابت الغرب الأوروبى حتى مات البابا الكاثوليكى من شدة الحزن على استعادة المسلمين لبيت المقدس. و ما كان من البابا الذى خلفه الا أن يحاول اشعال الحماس فى الأفراد من خلال وعده لهم بدخول الجنة اذا ما صاموا يوم الجمعة و امتنعوا عن أكل اللحوم يومى السبت و الأربعاء. و بالإضافة الى ذلك، فرضت ضرائب جديدة سميت ب"عشور صلاح الدين"، و كانت عبارة عن عشر الدخل الأوروبى المخصص للقضاء على صلاح الدين. و بدأ الإعلام الأوروبى يستفز مشاعر الشعوب ضد صلاح الدين و المسلمين اذ شرعوا فى رسم لوحات كبيرة تصور السيد المسيح على أنه رجل ضعيف يضربه رجل غليظ بمطرقة. و ما أشبه الأمس باليوم حيث يصور العالم الغربى حاليا المسلمين بالإرهابيين.
و فى الحقيقة، الإسلام ليس بحاجة لإن يدافع عنه أحد لأنه أكثر الرسالات السماوية سماحة على الإطلاق. يقول الحق تبارك و تعالى:
"إن الدين عند الله الإسلام" ]آل عمران ، 3 : 19 [.
و المطلوب من كل مسلم أن يفتخر بانتمائه للإسلام. و رغم الهجمة الشرسة التى قام بها الأوروبيون بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، الا أن عدد المعتنقين للإسلام من الملل الأخرى قد تزايد بعد ذلك التاريخ نتيجة اقبال الأوروبيون على دراسة تعاليم الإسلام و اكتشاف مدى سموه.
"و من أحسن قولا ممن دعا إلى الله و عمل صالحا و قال إننى من المسلمين"[1] و عودة الى عصر صلاح الدين الأيوبى، أدى التحفيز الإعلامى الى تحريك الحملة الصليبية الثالثة التى إتسمت بالقسوة و الضراوة. و قد وصلت الأخبار أن الأمير الألمانى فريديريك باربا روسا قادم الى الشرق على رأس ثلثمائة ألف جندى. و بالفعل، عبرت تلك القوات قارة أوروبا و استعدت للوصول الى الشام من الشمال. كما أفادت الإستطلاعات أن الأسطول الإنجليزى بقيادة ريتشارد قلب الأسد وصل الى صقلية فى طريقه الى قبرص ثم الى عكا. هذا بالإضافة الى تحرك ملك فرنسا فيليب أغسطس بأسطوله في اتجاه الشرق.
و إقتربت الأساطيل الأوروبية من عكا، و شرع صلاح الدين فى إعادة تجميع القوات الإسلامية. و لم يتوقف عدد الجند الغربيون القادمون الى الشرق عند المائة و عشرون ألفا الذين حضروا فى الحملة السابقة، و إنما كانت أوروبا بأسرها قد لفظت بفلذات أكبادها. كما أن قادة الجيوش لم يكونوا مجرد أمراء عاديون مثل من سبقوهم فى الحملات السالفة، و إنما كانوا ملوك و حكام إنجلترا و فرنسا و ألمانيا. و عند وصول الأسطولين الإنجليزى و الفرنسى بأعداد غفيرة الى عكا، دار الحوار التالى بين صلاح الدين و ابن شداد:
"(ابن شداد) : فيم شرودك يا صلاح الدين؟ (صلاح الدين) : إنى أفكر بعد أن نقضى على هذه الجموع القادمة أن أعبر البحر و أرفع راية الإسلام فى بلاد الفرنج حتى يقضى الله أمرا كان مفعول".
و إن دل كلام صلاح الدين على أمر ما، إنما يدل على أنه كان ينظر للأمور بنظرة مستقبلية تملؤها الثقة بالتمكن من القضاء على الحملة الآتية الى الشرق بقوات غير مسبقة، ثم الخروج فى أرض الله عبر البحار لنشر الإسلام. إنه لم يعد يشغل باله بمجرد التفكير فى معركة من المعارك، وإنما كان همه فى العمل على إعلاء راية الإسلام فى كافة أنحاء المعمورة.
"قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين"[2]
و بدأ حصار الصليبيين لميناء عكا فى عام 585 هجرية بعد أقل من سنتين من فتح بيت المقدس. و كانت هذه الحملة قد تم إعدادها إعدادا قويا حتى أن حصار عكا إستمر لمدة أربع و عشرين شهرا. و هكذا، ظلت عكا صامدة أمام الأسطولين الإنجليزى و الفرنسى لمدة عامين كاملين دون أن تستسلم للقوات الصليبية. و طيلة هذه المدة كانت قوات صلاح الدين متواجدة خارج أسوار عكا، فيما كانت هذه القوات تقوم بهجمات بريةمتتالية.
و بعد ستة أشهر من حصار عكا، و بالتحديد فى مطلع شهر شعبان، قام بهاء الدين قراقوش، و هو المسئول عن التموين بميناء عكا، بإبلاغ صلاح الدين أن المؤن المتاحة سوف تنفذ بمضى أسبوعين. و بناءا على ذلك، كلف صلاح الدين مجموعة من سفن الأسطول المصرى بإختراق الأسطولين الإنجليزى و الفرنسى. و بالفعل، و أثناء تأدية الأسطول المصرى للمهمة البحرية التى تم تكليفه بها، تدخلت القدرة الإلهية فيأمر الله تبارك و تعالى الرياح بتغيير إتجاهها بما يساعد الأسطول المصرى على بلوغ ميناء عكا بالمؤن اللازمة! و لم يستطع الصليبيون إصابة الأسطول المصرى إلا بعد أن وصلت المؤن الى داخل عكا. و كان هذا الحدث أحد الأمثلة العديدة التى تنطبق عليها الآية الكريمة:
"و ما يعلم جنود ربك الا هو" ]المدثر، 74 : 31[.
و لقد أكرم الله عز و جل جنده لأنهم توكلوا عليه حق توكله، فهم أولا قد تحروا تقواه سبحانه و تعالى، ثم توجهوا اليه سائلين العون و التوفيق، و أخيرا إنطلقوا ليؤدوا ما كتب عليهم من جهاد فى سبيله. و من ضمن هؤلاء الجند المخلصين كان عيسى العوام الذى أجاد السباحة حتى أنه كلف بهمة توصيل أربعة آلاف دينارا ذهبية الى عكا. و سبح عيسى العوام بين السفن الصليبية غير عابئ بما قد يحدث له فى سبيل إنجاز المهمة التى كلف بها. و أصيب عيسى باحد السهام و توفى فى الحال فغرق. و لكن، يشاء السميع العليم أن يصل جثمانه طافيا على شاطئ عكا ليحصل أهلها على ما كانوا ينتظرونه من دنانير. و بهذا يكون الله جل علاه قد أكرم هذا المؤمن بالشهادة بما فى ذلك من جزاء و نعيم لا يعلم مداه الا الله العلى القدير، و فى نفس الوقت عززه بين الناس بأن جعله يؤدى أمانته حتى بعد وفاته.
و تلك الأمثلة للإخلاص و الإيمان بالله الواحد القهار جاءت من أناس كان مسلكهم مختلفا عما نحن عليه الآن. لم يكن هؤلاء المؤمنون يخشون إلا بارئهم تبارك و تعالى. و من أمثلة ذلك ما فعله شاب دمشقى لم يهب أو يستسلم لمناعة و ضخامة الأبراج التى أحضرها معهم الصليبيون و التى كانت تقل على سطحها خمسمائة جندى. و كان هذا الشاب قد لاحظ أن المادة المصنوعة منها الأبراج مادة لا تؤثر فيها النيران، و لذلك فقد عنى بدراستها بهدف التوصل إلى تركيب كيميائى يستطيع أن يقضى عليها. و قد ظل هذا الكيميائى عاكفا فى معمله طيلة ثمانية أشهر بذل فيها ما استطاع من جهد و مال و فكر حتى و فقه الله تعالى الى إكتشاف مادة تبيد الأسوار الصليبية. و لما كان من الضرورى ان يصل هذا الدمشقى إلى داخل عكا ليسلم المادة المكتشفة حتى يتم تصنيع منها كميات كبيرة تستخدم فى القضاء على الأبراج، أمر صلاح الدين ابنه الأفضل بقيادة بعض الجند لتأمين وصول الدمشقى خلف أسوار عكا. و بالفعل، وصل الشاب الى عكا و سلّم التركيب الكيميائى المؤثر الذى كان سببا فى تدمير الأبراج الصليبية. و جاءت المفاجأة عندما أراد صلاح الدين مكافأة هذا الدمشقى الأمين، دار بينهما ما يلى من حوار قصير:
"(صلاح الدين) : لقد أديت أيها الرجل واجبك بأمانة و تكبدت فى سبيل ذلك ما تكبدت، و قد وجب علينا حسن جزاؤك، فما تطلبه يكون لك بإذن الله. (الشاب الدمشقى) : و الله ما فعلت ذلك من أجلك ، و إنما فعلته لله رب العالمين و إنى أنتظر جزائى يوم القيامة من الله العفو الكريم".
و بذلك، أصبح الشاب الدمشقى مثالا عمليا للإخلاص لله عز و جل، فقد رفض كل ما كان من الممكن أن ينعم به جزاء ما صنعه من عمل أفاد به الأمة و قضى به على سلاح عدوها. و ما كان ذلك ليبدر إلا من عبد عرف الله و وثق فى خير جزاءه فاستعوض به عن إحسان من سواه.
و الجدير بالملاحظة أيضا ان تلك النوعية من الأفراد قد إقتدت بخير قدوة حيث ضرب صلاح الدين مثالا للقائد الذى لا يتوارى أن يقدم إبنه فداء إعلاء كلمة الله عز و جل. و قد تجلى ذلك عندما جعل صلاح الدين إبنه الأفضل على رأس الجند المرافقين للدمشقى حتى إخترقوا أسوار عكا و نفذوا إلى داخلها، بما فى ذلك من خطر يحيق بإبن السلطان. و لكن صلاح الدين لم يشغل باله بكونه سلطان المسلمين و لا أبا لولده، و إنما اقدم على ما فعله إبتغاءا لمرضاة الله جل علاه.
و ما كان سلوك صلاح الدين إلا إتباعا لأحكام الشريعة الغراء التى نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم، و إقتداءا بصحابته عليه أفضل الصلاة و السلام. و لقد جاء رجلا إلى النبى الكريم صبيحة غزوة خيبر و أشهر إسلامه، فأشركه الرسول صلى الله عليه و سلم فى قتال اليهود. و بعد إنتهاء المعركة و عند لحظة توزيع الغنائم، قال الصحابى مخاطبا خاتم المرسلين: "و الله ما إتبعتك على هذا يا رسول الله، و إنما إتبعتك على سهم هاهنا(مشيرا إلى رقبته)". و عندما إنصرف الصحابى، قال النبى صلوات الله و سلامه عليه: "أفلح إن صدق". و لم يمض على ذلك الحدث سوى أسبوعا واحدا حتى إستشهد الصحابى فى معركة تالية. و عندما أحضره الصحابة أمام النبى، وجدوا سهما مخترقا أسفل رقبته، فى نفس الموضع الذى كان قد أشار إليه فى الأسبوع السلبق على إستشهاده. فسأل الرسول: "أ هو هو؟". قالوا :"هو هو يا رسول الله". فقال النبى : "صدق الله فصدقه الله".
و الغرض من إستعراض تلك الأمثلة العملية للإخلاص لرب العالمين هو تحفيز كل منا على محاكاة تلك النوعية من المؤمنين المخلصين الذين نفتقدهم حاليأ، مما أدى إلى إنحدار أحوالنا إلى أدنى المستويات.
"وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان"[3]
و من أهم السلوكيات التى كانت ذات أثر بليغ على نفوس المسلمين و إستتبعتها رحمة الله لهم أثناء حصار ميناء عكا كان سلوك التوجه إلى الله تبارك ة تعالى بالدعاء و الإبتهال. و بالنظر الى الحال التى آلت إليها أمور أمتنا من تدهور، فما أقل من أن يتوجه كل فرد منا بالدعاء إلى المولى عز وجل سائلا العون و الإرشاد و التثبيت للنفس و للأمة بأسرها، لعل الله جل علاه يستجيب لدعاء أحد الصالحين فيفرج عنا ما نحن فيه من كرب.
[1]]فصلت، 41 : 33[.
[2]الزمر، 39 : 11[.
[3]]البقرة، 2 : 186[. | |
|